٢١ فبراير ٢٠٠٦

 

أقرأ وأتذكر وأقول


أغراني ما كتبته «سامية» عن «حازم شاهين» بأن أفترش ”البساط الأحمدي“، على ناصية «الشارع الأدبي»، لأقرأ، وأتذكر، وأقول.

تصادفني في زياراتي للمدونات أصوات تمس أوتاراً في نفسي. أتوقف عندها وأعود إليها كثيراً. تبهرني إلتماعات الذكاء والصدق، فأطيب نَفْساً وأقر عيناً وتتفيأ السكينةُ الراضيةُ شغاف قلبي.

أقرأ، ثم أعاود القراءة. فإذا استدرجني النص بذكائه إلى عالمه، وانعقدت الأُلفة بيننا، تقاطرت التداعيات. ولما كان ”البساط أحمدياً“ فإني أطلق لها العنان، أو قل إنها تُطلق لنفسها العنان.

أتذكر.

أقرأ، وأتذكر، ويخطر لي أن أقول ما قرأته وتذكرته، فتُطلق - التداعيات- لنفسها العنان مرة أخرى. ويخطر لي، عندئذٍ، أن أجمع هذا كله - التداعيات وتداعيات التداعيات!- في نص واحد. لا أخجل من عرضه عليكم كما هو، فكلنا أخوة ورفاق طريق.

حاولت، بطبيعة الحال، أن أضفي على ما أقوله شيئاً من نظام، مستعيناً بأدوات بسيطة، لا تخفى دلالتها على القارئ، أهمها الأقواس التي استخدمت نوعين مختلفين منها.

***
لا تربطني بمن أنوي الحديث عن نصوصهم معرفة شخصية من قريب أو من بعيد. ولا مطمع لي سوى أن أشرك من يتيسر لي إشراكهم من ’أصحاب النصيب‘ في الفرحة التي غمرتني لدى قراءتي لنصوص بعض المدونين.

العمل الأدبي الجيد يعطينا، فيما أعتقد، الفرحة أولاً، أما العمل الأدبي العظيم فيعطينا الفرحة والمعرفة معاً. وبعض من قرأت لهم من أصحاب المدونات يسيرون، أو يصعدون، فيما آمل وأرجو، في هذا الطريق. قلبي معهم!

لا أكتب ابتغاء مرضاة أحد ولا سعياً إلى إغضاب أحد.

أقول ما عندي ورزقي على الله.

لا أفرض ذوقي على أحد، والمثل يقول: ”لا مشاحة في الذوق“!

ناقد الأدب، كما يقول شيخنا «يحيى حقي» ”يعلم أنه لا يدلي بأحكام قاطعة... إن أرضاه أن يقبل وجهة نظره إناسٌ فلا يحزنه أن يرفضها إناسٌ آخرون، يكفيه حسن نيته..“.

هذا ناقد الأدب، فما بالكم وأنا مُجرد ’قارئ‘!

وأبدأ هذه المرة بقراءة بعض النصوص من مدونة «رنك» فأقول:


تبارك الوهاب ونعم الهبة!



إيمانٌ صاف بلا كدر، إخلاصٌ للحق وحده.

أستعذبُ الصوتَ الرافضَ للقبح والتعصب والرياء:

”نسمع الآذان ويبدو لي، كما في دمشق، أن أصوات المؤذنين السوريين جميلةٌ جدا وأتحسر على أصوات مؤذني مدينة الألف مئذنة. يُتبع المؤذنُ الآذانَ بالصلاةِ على النبي. فأردد وراءه وأتعجب على معارك تكبيرات العيد وصلواته في بلادي. ختاماً يقول المؤذن: ’الصلاة والسلام عليكم يا أنبياء الله‘. نردد الصلوات والسلام وأنا أنظر إلى حلب الشهباء التي أحببتها“.
.......
”المشاكل الطائفية ترعبني وتزعجني. أخاف منها جداً لكن ربنا كريم“.
.......
”وأدخل رواق القبة لأجد أنه لا فصل واضح ولا رجل ما يشير إلى مكان الصلاة المخصص ’للحريم‘. في بساطة تصلي النساء في آخر الرواق ولا ينظر إليهن الرجال. وهو في رأيي الجامع كما يجب أن يكون“.

***
تبهرني البراعةُ في العناوين: ”هل قتلته من أجلها؟“ - ”إسكندرية تاني وآه من العشق ياني“ - ”ونجوم الليل تنثر“ - ”أياً من الجنتين قصدت؟“ (هناك هنات في النحو، وربما أيضاً في استخدام بعض أسماء الإشارة، لكنها لحسن الحظ قليلة لا تفسد متعة القارئ المنصف).

تبهرني أيضاً فسيفساء الجمل القصيرة، اللغة الشفيفة غير المثقلة بالزخرف المتكلف:
”يغمرني شعورٌ لطيف عند مدخل حلب. لهذه المدينة وقعٌ جميلٌ على النفس“.
.......
”لم نعد نرى النجوم في سماء القاهرة بسبب تلوث الهواء. أراها خارجها في مجموعات مضيئة ساحرة ويتعلق نظري بالسماء في ذهول. أحبها جداً“.
.......
”للأسماء سحر! كل هذا الجمال في اسم واحد؟: أبو النجم بدر الجمالي“.
.......
تأخذني كذلك المراوحةُ الذكية بين المضارع والماضي، وبين الجمل الاسمية والجمل الفعلية، بل والاستخدام الخاص لبعض حروف الجر! : ”وأتعجب على (وليس ’من‘ أو ’لـ‘) معارك تكبيرات العيد“ - الاستخدام مستعار من العامية: ”عجبي عليك يا زمن!“، ولكنه في هذا السياق يبدو جميلاً. والأجمل منه قولك: ”في بساطة تصلي النساء“ وليس ”ببساطة...“ كما يذهب الاستخدام الشائع المأخوذ عن الترجمة من لغات أخرى (simply - simplement, avec simplicité). حرف الجر ”في“ يفيد في العربية الوعاء والظرف وما قُدِّر تقدير الوعاء. يقول «سيبويه»: ”أما في فهي للوعاء، تقول: هو في الجراب وفي الكيس وهو في بطن أمه“. حين تقولين: ”في بساطة تصلي النساء“ يشعر القارئ بأن البساطة - البعد عن الزخرف والتكلف- تستغرقهن و تستوعبهن وتحيط بهن من كل جانب: إخلاص للحق وحده!

***
يسري في مدونة «رنك» نفسٌ واحد، شعورٌ واحد ”جال في النفْسِ مجالَ النَفَسِ“: إن الله جميل يحب الجمال!

[ سدد السهم فأصمى إذ رمى
في فؤادي نبلةَ المفترسِ ]

***
في ”هل قتلته من أجلها“

أتوقف مع الحمام الأزرق على العقود الزخرفية. أبتسم معك وأوحد الله. أحس بأغنية «صلاح جاهين» البسيطة العذبة وقد غدت - في كتابتك- جزءاً من نسيج المئذنة، من لحمتها وسداها، سُقيا - المئذنةُ والشعر- من نبعٍ واحد:

ســلامــات يـســعد صـبــاحك“ : تحيتان متعانقتان، التحيات لله، عِقدٌ من عقود المئذنة (العِقد والعنق!)، السينان ثم الصاد، ثلاثة أصوات مهموسة: عذوبةٌ صافية وتسبيحٌ خاشع أمام المئذنة الشامخة ”الطاغية الحضور“. حروف المد الثلاثة (الفتحات الطويلة الثلاث كما يقول النحاه): أيادٍ ممدودةٌ ترتقي - صوتاً وصورة- سلم السماء!

***
[ ترتقي عيناي المئذنة، تصعدان مرة جديدة ثم ثالثة مع تكرار الفتحتين الطويلتين. أتطلع، معه ومعك، إلى السماء، وأقول:”دي بلدنــا خد براحك“. ثم، وأصداء الأغنية تأتي من بعيد، أُحلق. ما أجمل التحليق وما أجمل البراح! ثم أعود لأقول معكما، في ذلك اليوم البارد الجو الغائم السماء: ”يا حمــام وافرد جنــاحك“.

يصعد صوتٌ بداخلي، نقول جميعاً: ”يا وطن وافرد جناحك!“ أليست ”دي بلدنا“؟ تَرِدُ على خاطري قصةٌ جميلة لـ «ديستوفيسكي» قرأتها منذ سنوات، تتحدث عن سجناء تعلقت آمالهم بتحليق نسر في السماء!

يسلم إن شاالله. ]

***
تنهض في ذاكرتي أصداء بيت قديم:

”ألا يا حمامات اللوى عُدْنَ عودةً     فإني إلى أصـواتكن حـزينُ“
***
اختيار هذا المقطع بالذات، دون غيره، من أغنية «صلاح جاهين»، في سياق وصفك للمئذنة في جامع حلب، ينم عن ذائقةٍ مرهفةٍ وتبصر واعٍ بأهمية البنية الصوتية في إنتاج دلالة النص.

[ فرحت فرحاً غامراً حين عثرت، بعد أيام من كتابتي لهذا النص، على مقال لـ«فؤاد حداد» يتحدث فيه عن شعر «صلاح جاهين»، فيقول: ”وتطير في الأعالي مُنتشياً عندما يقول: ’يا حمام البر سقف‘“. الحمد لله. القلوب عند بعضها! ]

***
قَد  زُرتُهُ   وَسُيوفُ   الهِندِ   مُغمَدَةٌ   *   وَقَد   نظَرتُ   إِلَيهِ   وَالسُيوفُ   دَمُ 
فَكانَ   أَحسَنَ   خَلقِ    اللَهِ    كُلِّهِمِ   *   وَكانَ أَحسَنَ ما  في  الأَحسَنِ  الشِيَمُ 
فَوتُ   العَدُوِّ   الَّذي   يَمَّمتَهُ    ظَفَرٌ   *   في   طَيِّهِ   أَسَفٌ    في   طَيِّهِ   نِعَمُ 

تقول الكاتبة ”هذا البيت الأخير من أبيات «المتنبي» التي تذهلني وأتذكرها كثيراً“: ”البيت“ وبعدها ”أبيات“ ثم تنتهي الجملة بنقطة. وفي أول السطر التالي نقرأ: ”بنى نور الدين الشهيد...“ ثم تتكرر كلمة ”تحصينات“ مراراً في الفقرة ذاتها مثلما تكررت في الفقرة السابقة لها.

جميل جدا هذا المزج بين الأبيات والبناء والمباني. جميل جداً المزج بين القلاع والحصون وهذا الموج المتدفق بقوة مع التكرار المتلاحق للألفاظ في شعر «المتنبي»:

قد زرته وسيوف... وقد نظرت إليه والسيوف...
ثم ”فكان أحسن... وكان أحسن ما في الأحسن...
ثم... ”ظفر... في طيه أسف في طيه نعم
موسيقى اللغة تجاوب موسيقى العمارة: الأذن ترى والعين تسمع!

ثم القلاع والحصون و”السيوف دم“!

ما شاء الله! هل جاء هذا كله عفو الخاطر؟

يخامرني - لفرط العذوبة- شعور قوي بأنها السليقة، لكنها السليقة المتشربة لكل ما هو جميل، المدربة بالجهد والعناء والصدق مع النفس..

***
في ”عبرة وجمال“

”دخلتُ القبةَ... وألقيتُ السلام عليكم يا صلاح الدين“. لم تقولي:”وألقيتُ السلامَ على صلاح الدين“ أو حتى ”وقلتُ السلام عليك يا صلاح الدين“. كأني بك ماثلة بين يديه. تخاطبينه بصيغة المخاطبين الحاضرين. ولكل مقامٍ مقال! من جلال الرجل العظيم وهيبته ووقاره، ومن أدبك وكرم قلبكِ، قلتِ: ”عليكم“!

[ صيغة الجمع هذه دمعت معها عيناي. قلت لنفسي: ”الحمد لله. هذا وطنٌ لا يضيع الفضل فيه!“ ]

ثم تعودين - مراعاة لخاطره وتواضعه- فتخاطبينه بصيغة المفرد، لترفعي من قدره (وقدرك عند القارئ) أكثر وأكثر! ما أجمل روحك!

***
أتوقف أخيراً عند ذكرك للمصادر. أقول لنفسي: لا يبدو في كثير مما كتبتْه شيءٌ غريب عنها. كل ما أخذتْه من الغير ذاب في نسيج كتابتها. تشرب روحها. أستغرب، للوهلة الأولى، حرصك على ذكر المصادر خاصة وأنت تنسبين، في المتن ذاته، النصوص المقتبسة إلى أصحابها، وليس في كتابتك ما يوحي بشيءٍ آخر مأخوذ مباشرة عن الغير. هذه أمانةٌ نادرة في عصرٍ يسرق فيه أساتذة (!) أعمالاً لآخرين وينسبونها، بلا حياء، إلى أنفسهم.

كان الدعاء المحبب لـ«محيي الدين بن عربي»: ”يرزقنا الحقُ الحياءَ منه“. وقد رزقك الحقُ الحياءَ منه.

***
طابت النفس وقرت العين، فالحمد لله أولاً وأخيراً والشكر لك!

التسميات: ,


تعليقات (6):

  Blogger هبة قال/قالت:

أعطيتني ومدونتي فوق قدرنا بكثير جداً. لا أجد الكلمات لأرد على كل هذا الكرم.

أشكرك شكراً جزيلاً.

هبة

٢٢/٢/٠٦ ٠٩:٥٢
 
  Blogger السهروردى قال/قالت:

أستاذ عبد الحق
مش عارف إذا كان كلامى حيضيف شئ أم لا
! بس حقوله و الأجر على الله
مدونة رنك مدونة متميزة جدا جدا من الناحية العملية البحتة لأنها لا تتتظر تعليقات الأخرين بالسلب أو الإيجاب على موضوعتها
انا الحقيقة قرأت عدة تدوينات متفرقة و مش قادر أوصف لحضرتك مدى إنبهارى بيها و بموضوعاتها و بشعورها الراقى
فى يوم حأبقى فاضى و ماوراييش حاجة و حأقعد اقرا كل كلمة إتدونت فيها
:)

١٥/٤/٠٦ ٠٢:٠٧
 
  Blogger عبد الحق قال/قالت:

القلوب عند بعضها ياسهروردى. تعليقك أضاف الكثير. اسعدنى فوق ماتتصور! هل أثقل عليك لو قلت لك اننى انتظر بشوق أن اقرأ لك المزيد من القصائد؟

١٧/٤/٠٦ ٢١:١٥
 
  Blogger 4thH قال/قالت:

مدونة هبه هي اختياري فعلا اذا تم الغاء كل المدونات و السماح بواحده فقط
..
تبهرني كل مره

٢٢/٧/٠٦ ٠٥:١٧
 
  Anonymous غير معرف قال/قالت:

بشير عياد
حيرتوني معاكو
ذهبت إلى فؤاد حداد وجدت واحدة حرانة عمالة تبص لي
كل ما أضغط تطلع لي
ذهبت إلى صلاح جاهين وجدت الموقع تحت الإنشاء
الحكاية طالت
على فكرة
هذه أول مرة أكتب بالعامية لأني زعلت ، وأنا لما أتنرفز أكتب بالعامية
أنا من المتحدثين عن الشاعرين الكبيرين ، وكتبت عنهما كثيرا
وأتمنى أن نوفيهما ما يليق بما تركاه لنا وللأجيال المقبلة
www.maktoobblog.com/basheerayyad

٢٣/٧/٠٧ ٢٢:١٧
 
  Anonymous غير معرف قال/قالت:

عفوا
هذا تصويب لم أنتبه إليه

٢٣/٧/٠٧ ٢٢:٢٠
 

إرسال تعليق

أول الشارع >>